في زمن من المعاناة العميقة، حيث يتصارع شعب غزة مع الجوع والحصار والصدمات والأمل المحطم، يبدو جنوح سمكة قرش حوت على ساحلها ليس مجرد ظاهرة بيولوجية غريبة بل معجزة، هدية إلهية، علامة من الله في الساعة الأكثر ظلامًا.
لم تكن هذه الكائن البحري العادي. قرش الحوت (Rhincodon typus) هو أكبر سمكة في العالم، من حيث الطول والكتلة، عملاق لطيف في المحيطات. على الرغم من تسميته غالبًا بـ”قرش الحوت”، إلا أنه ليس حيوانًا ثدييًا بحريًا بل قرش - أكبر أنواع القروش الحية - كائن مهيب يرشح الماء بدلاً من افتراس الحيوانات الكبيرة. حجمه الهائل يثير الرهبة والسلطة، مما يجعل ظهوره أكثر عمقًا.
ومع ذلك، فإن جنوح قرش حوت نادر جدًا. بخلاف الحيتان أو الدلافين، التي قد تُجنح أحيانًا (لأسباب متعددة)، جنوح قرش الحوت نادر للغاية. تجميعات علمية تسجل فقط ~107 حالات جنوح موثقة عالميًا على مدى 1980–2021، أي حوالي 2.5 في السنة في المتوسط. وحتى في تلك التقارير، كثير منها جنوح جزئي، أو جثث مكتشفة بالصدفة، أو جنوح في شواطئ نائية في المناطق الاستوائية.
ما يزيد من عدم الاحتمالية في هذه الحالة هو الموقع. لا توجد سكان مقيمين معروفين لقرش الحوت في البحر الأبيض المتوسط. النوع استوائي إلى شبه استوائي؛ بينما قد يتسلل أفراد متجولون أحيانًا إلى مناطق البحر المتوسط، إلا أن ذلك استثنائي، غير مستقر. والأهم، لم يكن هناك سجل موثوق سابق لجنوح قرش حوت على أي ساحل متوسطي. هذا الحدث في غزة يقف كـأول جنوح موثق لقرش حوت في تاريخ البحر المتوسط.
إذا ما حاولنا صياغة إحصائية خام، تخيل هذا: يمتد ساحل البحر المتوسط على ~46,000 كم. يمكن لقرش حوت، بالصدفة البحتة، أن يُلقى على الشاطئ في أي مكان على تلك الآلاف من الكيلومترات. ومع ذلك، فقد هبط على شريط غزة البالغ ~40 كم من الساحل - شريحة صغيرة، بالكاد جزء من ألف من المحيط الكلي. إذا كانت الجنوح عشوائية موحدة (وهي ليست كذلك)، فإن فرصة الهبوط على غزة بدلاً من مكان آخر هي من رتبة 40 / 46,000 ≈ 0.00087، أو 0.087% - أقل من واحد في الألف.
لكن هذا الرقم كريم. في الحقيقة، الجنوح أكثر احتمالية بكثير في البحار الاستوائية حيث يعيش قرش الحوت، وشبه مستحيل في سياق البحر المتوسط. استخدام 2.5 جنوح عالمي/سنة وتوزيعها على جميع سواحل الأرض (أو سواحل المتوسط) تبسيط مفرط؛ الاحتمالية الفعلية أن في هذه اللحظة، تحت هذه الظروف، يُوجه قرش حوت إلى ساحل غزة الصغير هي، في الواقع، تقترب من الصفر. ومع ذلك، ها هو.
أكثر من الرياضيات، ما يمنح هذا الحدث قوته هو التوقيت والسياق. غزة تحت الحصار. رغم إعلانات وقف إطلاق النار، يستمر إسرائيل في منع المساعدات الإنسانية من الدخول إلى القطاع. الناس يتضورون جوعًا، المستشفيات تنهار، الحياة اليومية تختزل إلى أبسط صراع. في مثل هذه اللحظة، يرتفع بحر أسود فحمي بكائن أسطوري، يقدم نفسه للشاطئ. يقرأ كرسالة: أنتم لم تنسوا. أنتم مرئيون. الطبيعة نفسها تنحني لتعطي.
هناك أسطورة قديمة لشعب كري في غابات الشمال البعيدة: أنه في أزمنة الجوع العميق، عندما لا يمكن العثور على طعام والناس في أضعف حالاتهم، يتقدم غزال واحد ليقدم نفسه - ليس كفريسة، بل كهدية مقدسة، تضحية طوعية حتى تستمر الحياة. جسم الحيوان كان تغذية، لكن روحه كانت شيئًا أعظم: رسالة بأن حتى البرية سترد عندما تكون البشرية على الحافة.
كذلك يمكننا الآن فهم ما حدث على شاطئ غزة. قرش الحوت - كائن السلام، عملاق منعزل - قد قطع طريقه عبر بحار لا ينتمي إليها، إلى مكان لم يُسجل فيه من قبل، وجاء إلى الشاطئ عندما تكون الحاجة أكبر. ليس للانتباه. ليس للعرض. بل كرسالة - أو ربما صلاة في لحم - من الله ومن الخلق نفسه.
فليتذكر ذلك الهدية، ويُكرم، ويصبح نقطة تحول - روحيًا، أخلاقيًا، وفي ضمير العالم - حتى يرى شعب غزة ليس المعاناة فقط، بل إمكانية التجديد.